"أرض الميعاد" لهرتزل.. سرديّة تخييليّة للمشروع الصهيوني - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

 

كتبت بديعة زيدان:

 

الترجمة الأحدث لرواية تيودور هرتزل (هرتسل)، "ألتنويلاند" (أرض الميعاد) إلى العربية عن الألمانية، على يد عماد أبو أحمد، والصادرة عن دار الرافدين، حديثاً، تأتي كحدث ثقافي يتجاوز كونه مجرد نقل نص أدبي منسي، بقدر ما يشكل عملية استحضار لذاكرة المشروع الصهيوني في جانبه التخييلي، وكشفا عن الآليات السردية التي وظفت الأدب كأداة لترسيخ رؤية سياسية استعمارية.
وكما يؤكد المترجم في مقدمته، فإن هذه الرواية "أخطر بمراحل من كتابه ذائع الصيت، الدولة اليهودية"، لأنها لا تخاطب العقل بنظرية سياسية مجردة، بل تسعى عبر المجاز والخيال إلى "النفاذ إلى روح القارئ وكسب وجدانه".
يقدم المترجم عماد أبو أحمد عمله ضمن إطار "دراسات الذاكرة الثقافية"، معتبراً الترجمة "عملية تذكير يصبح فيها الزمن صفرياً"، فالغاية ليست مجرد تعريف القارئ العربي بعمل مؤسس الصهيونية، بل هي محاولة لـ"ردم الهوة بين الماضي والحاضر"، خصوصاً بعد العدوان على غزة الذي أعاد أزمة السردية الأوروبية إلى الواجهة.
وتمحورت دوافع الترجمة حول ثلاثة محاور رئيسة، أولها "إبطال النسيان"، بحيث تهدف الترجمة إلى مقاومة نسيان الجانب الثقافي للمشروع الصهيوني الذي تم تجاهله في العالم العربي والإسلامي، وثانيها كشف الجذور الكولونيالية، عبر السعي للكشف عن ارتباط الصهيونية العضوي بالمشروع الاستعماري الأوروبي وفكر "عبء الرجل الأبيض"، وكيف تم توظيف الأدب كأداة استعمارية ترى في أرض الآخر "فراغاً مكانياً" بانتظار "المخلص الأوروبي"، وثالثها فضح الصمت الأخلاقي، خاصة أن الرواية تُبرز "إخراساً ممنهجاً وواعياً لوجود السكان الأصليين لفلسطين"، وهو ما يصفه المترجم بـ"السكوت المرعب".
ويربط هذا الصمت بمفهوم "الحياء ما بعد الكولونيالي"، حيث إن بناء يوتوبيا جمالية يتطلب الصمت عن العنف والإقصاء الذي قامت عليه، ما يشكل "خيانة للضمير الإنساني".
تبدأ الرواية ببطلها فريدريش لوينبيرغ، شاب يهودي نمساوي مثقف ويائس من الحياة في فيينا، وبعد قصة حب فاشلة، يقرر اعتزال العالم برفقة الأرستقراطي البروسي كينجسكورت.
قبل رحلتهما إلى جزيرة نائية في المحيط الهادي، يقومان بزيارة خاطفة لفلسطين، فيجدانها أرضاً "خراباً وفي حالة منحطة"، يسكنها "عرب أقذار" ويهود خائفون.
وبعد عشرين عاماً من العزلة التامة، يعودان إلى العالم ليكتشفا أن فلسطين تحوّلت إلى "مجتمع جديد" مزدهر ومتقدم تكنولوجياً، أما بقية الرواية فهي جولة سياحية داخل هذه اليوتوبيا، حيث يستعرض هرتزل من خلال شخصياته رؤيته التفصيلية للدولة اليهودية المنشودة.
وفي إطار الجولة المفصلة داخل هذه اليوتوبيا، يستعرض هرتزل من خلال حوارات مطولة رؤيته لمجتمع مثالي، اشتراكي تعاوني، يقوم الاقتصاد فيه على نظام الجمعيات التعاونية التي تضمن حقوق العمال وتحد من هيمنة الرأسمالية الفردية، كما يقوم على تسامح شكلي، فهو يصوّر "المجتمع الجديد" كواحة للتسامح تتعايش فيه الأديان المختلفة، مع وجود كنائس ومساجد إلى جانب المعابد اليهودية، لكن ما يجعله شكلياً هو تغييبه للسكان الأصلانيين.
وتكمن خطورة الرواية في قدرتها على بناء عالم ساحر ومتكامل على أرضية من الإلغاء التام للآخر، ففلسطين قبل "المجتمع الجديد" هي أرض خراب تنتظر من يعمرها، أما سكانها الأصليون، فيتم التعامل معهم بإحدى طريقتين: التغييب شبه الكامل، بحيث يتم وصفهم بشكل عابر كجماعات متخلفة تعيش في "قرى بيوتها من الحجارة السوداء"، أو التدجين والاحتواء، ويتمثل في شخصية "رشيد بك"، المثقف الذي درس في برلين، باعتباره العربي النموذجي في المخيال الصهيوني، الذي لا يرى في المشروع الجديد تهديداً، بل "نعمة" و"خيراً"، هو الذي يؤكد لكينجسكورت أن أحداً لم يُهجّر، بل ازداد الجميع رخاءً، ويقول: "هل تسمي الذي يمد لك يد العون لصاً؟".
صحيح أن الرواية تقدّم نفسها كعمل إبداعي وجمالي، لكن هذا الجمال هو نفسه القناع الذي يخفي جريمة الإحلال والإلغاء، بل تظهر كحجة أخلاقية على كاتبها الذي رأى فلسطين الحقيقية بعينه، ثم اختار أن يمحوها في خياله ليبني فوقها حلمه، فـ"أرض الميعاد" لثيودور هرتزل، عمل أدبي تخييلي يهدف إلى تحقيق غايات سياسية، ما يجعلها مختلفة شكلاً ومضموناً عن الكتابات التنظيرية المباشرة.
مضمون الرواية تطبيق عملي تخييلي لأفكار هرتزل السياسية التي طرحها في كتابه "الدولة اليهودية"، فبدلاً من تقديم أفكاره كنظرية، قام بتجسيدها في شخصيات وأحداث ومجتمع متخيل، ما يجعل الفكرة السياسية أكثر تأثيراً وقدرة على كسب وجدان القارئ المحايد، علاوة على كونه مضموناً مشبعاً بالفكر الاستعماري الأوروبي، فهي تقدم فلسطين على أنها "أرض يباب" أو "خراب" تنتظر من يعمرها وينقل إليها الحضارة الأوروبية، كما أنها تحتفي بالعلوم والتقنيات والصناعات الأوروبية باعتبارها الأدوات الوحيدة القادرة على إحياء الأرض، متجاهلة تماماً وجود أي ثقافة أو حضارة محلية.
العنوان الأصلي للرواية: "أرض قديمة - جديدة" (Altneuland) يلخص مضمونها، فهي لا تدعو إلى قطع الصلة بالماضي، بل إلى إعادة بناء "الأرض القديمة" بأدوات "جديدة"، ويتجلى ذلك في إعادة بناء هيكل سليمان بتصميم حديث، وإحياء اللغة العبرية، وفي نفس الوقت تأسيس مجتمع اشتراكي تعاوني قائم على أحدث النظريات الأوروبية.
كما تطرح الرواية فكرة أن هجرة اليهود وعملهم في الأرض هو ما أعاد إليها الحياة، وأن هذا المشروع لم يضر بالسكان المحليين بل كان "خيراً" و"نعمة" لهم، كما جاء على لسان شخصية "رشيد بك"، وهذا المضمون يقدم تبريراً أخلاقياً لمشروع إحلالي عبر إظهاره كمشروع تنموي أفاد الجميع.
وتعتبر الرواية عملاً رمزياً بامتياز، حيث تمثل الشخصيات أفكاراً سياسية محورية، كحال "فريدريش لوينبيرغ"، الذي يمثل اليهودي الأوروبي المثقف واليائس الذي فقد هويته، والذي يجد خلاصه الفردي والقومي في العودة إلى "أرض الأجداد" والمشاركة في المشروع الصهيوني، و"دافيد ليتفاك"، ابن البائع المتجول الفقير الذي ساعده فريدريش في بداية الرواية، وتحوّل إلى قائد ثري ومؤثر في "المجتمع الجديد"، يرمز إلى قدرة الشعب اليهودي على النهوض من الفقر والشتات ليصبح قوة فاعلة ومنتجة.
من حيث الشكل، الرواية تتبع بنية قصص اليوتوبيا الكلاسيكية، فهي تبدأ بوصف عالم بائس (فيينا وحالة فلسطين القديمة)، ثم ينتقل البطل عبر فترة زمنية طويلة نسبياً (عشرين عاماً من العزلة)، ليعود ويكتشف مجتمعاً مثالياً ومزدهراً قام في نفس المكان.. هذا الشكل السردي يسمح للكاتب باستعراض رؤيته للمجتمع المثالي بالتفصيل.
تقدم رواية "أرض الميعاد" نفسها كحلم جميل، لكن قراءتها اليوم تكشف أنها كانت مخططاً دقيقاً لمشروع إحلالي، استخدم الخيال الأدبي كأقوى أسلحته لتبرير واقع استعماري يقوم على إلغاء الآخر وتغييبه بالكامل، فهي تشكل وثيقة نقدية حيوية، تكشف أن المشروع الصهيوني لم يكن مجرد فكرة سياسية، بل كان حلماً أدبياً يوتوبيّاً أيضاً، وكما أشار المترجم في مقدمته، فإن هذا العمل "أخطر بمراحل من كتاب هرتزل ذائع الصيت الدولة اليهودية"، لأنه يستخدم الأدب لترسيخ الرؤية الصهيونية كحلم قابل للتحقيق، بدلاً من طرحها كأطروحة سياسية مجردة.
جدير بالذكر أن ترجمة سابقة للرواية إلى العربية كانت صدرت في تل أبيب العام 1968، للمترجم مئير حداد، تحت عنوان "أرض قديمة جديدة" (الطنويلاند)، عن دار النشر العربي، وبدعم من المجلس الأهلي للآداب والفنون التابع لوزارة المعارف والثقافة الإسرائيلية، وقتذاك.

 

 

 

 

0 تعليق