حاوره زياد خداش:
سائق شاحنة طويلة، وشاعر حسّاس، وأب، يعيش جاراً وصديقاً للبحر، حين يكتب تحسبه يفعل ذلك ليحمي نفسه، في شِعره تجلس فلسطين مع الحب كأبناء حارة واحدة، لا فرصة لشجار بينهما.
على حواف الريح يعيش سلطان، لاجئاً من قرية "البروة" في قرية "الجديدة" التي عاش فيها محمود درويش فترة لاجئاً من "البروة" أيضاً، قبل أن يرحل إلى حيفا ثم المنافي.
كتاب سلطان الأخير الذي كتبه في العام 1917 "على حافة الريح"، يُعد مفتاحاً لحياته ومسيرته، وتكثيفاً لهويته الشعرية والإنسانية.. هذه دردشة معه:
* تعيش شاعراً في فلسطين الأصلانية، التي لم تعد كما كانت قبل الـ 48، في قرية "الجديدة".. هل هذا امتياز للشِعر أم إرباك له؟
- لن يكون لمعناكَ معنى، ولن ينبت الخيال في أرض قلبك، إن لم تتفيّأ ظل شجرة زيتونٍ صامدةٍ في وجه الاحتلال وتاريخه الزائف المصطنع .. وحدها شجرة الزيتون تؤكّد أن مجيئهم ومكوثهم سيمرّان مرور السراب.
أما إن بحثنا عن الفارق الهشّ بين الامتياز والإرباك، فأقول: إن الإبداع في جوهره مغالطة منطقية.
حين بحثتُ عن هزيمة المنطق، لسعتني صدمة الأمكنة الباكية في مقبرة الذاكرة.
نعم، قصائدي لم تُعِد للواقع شاكلته الأولى، لكنها تُشبِعُ فيّ الرغبة في إعادة تشكيل وعينا المفكك.
فتغدو الكتابة أجلّ وأسمى من رؤى منحدرة، ومن إحساس بوحي هبط ليلقمني بضع كسرات يابسة من غريزة الحياة المُرهفة... لا أكثر.
* هل يحتاج نص الشاعر إلى وسامة صاحبه؟ أخاطبك كشاعر وسيم: هل هذا من ضمن هيبته وقبوله؟ أم أن النص يصل بعيداً عن هذه المؤثرات؟
- أعشق الياسمين المشاغب، ففيه من البياض ما يكفي لمحاربة جيوش بكامل عتادها.
النص الجميل، الصاخب، أسرع من كاتبه. نراه ينتشر كالنار في الهشيم.. القيمة والمضمون كلاهما يسهم في رفع مكانة الشاعر وبقائه.
وسامة الشاعر أو الكاتب لن تثبّته على أرض المشهد الثقافي، إن لم تكن كلماته صادقة ومؤثرة.
الوسامة مرتبطة بالحضور والطلّة البهيّة، لا أنكر ذلك. قد تساهم في لفت الانتباه في البداية، وربما تلعب دوراً تسويقيّاً في زمن الصورة و"السوشال ميديا"، لكن النص الجيّد لا يحتاج إلى وسامة صاحبه.
* أنت تسكن في قرية عاش فيها، ويعيش فيها، أهل محمود درويش لاجئين من "البروة".. ماذا يعني لك ذلك؟
- نورٌ وسط الظلام، ويمكنني أن أقول: تَرنُّح الضوء المستفِزّ في عيون الضرير.
دون سببٍ واضح، يستفزك الحبّ حدّ الفرح، فتعشق تلك الجيرة، وتلك العلاقة العائلية التي تربطني بهم.
لكي يكون صباحك طيّباً، عليك أن تختار جيرانك أولاً، وأنا مدينٌ للرّب على هبّة الصدفة الأنيقة التي جمعتني بعائلة شاعرنا العظيم، محمود درويش.
أنا أيضاً وُلدت لعائلة لاجئة من قرية "البروة" المهجَّرة.. هذه الجيرة المتجدّدة قتلنا حبّها مرّتين: مرة في "البروة"، ومرة في قرية "الجديدة".
كلما قابلتُ صديقي وأستاذي زكي درويش، أعيدُ قراءة ذاتي سبعاً، لأروّض خيل الخيّال فيّ.
معه فقط ألمس شغف القلب واندفاع الجنون. حتى في صمتنا، وقت احتساء القهوة، أتذوّق طَعم الكلام الذي لم يُقَل.
نعم، لكل فرد من العائلة الدرويشية كيانه وعالمه الخاص، لكنّ التفاحة لا تسقط بعيداً عن أمّها الشجرة. فكيف يكون الأمر حين تكون تلك الشجرة الطيّبة هي أمهم "حوريّة"؟.. رائحة الإبداع هنا لا تنكفئ أبداً، وأنا أتنشّق عبق رحيقها بالكثير من الحبّ.
* تكتب نصَّ البوح، نصَّ الحزن الجميل، والمنافي الداخلية.. فلسطين داخل نصّك تبدو كأنها أساس كل هذه المنافي.. هل رتّبت ذلك قصداً، أم أن سياقك السياسي والشخصي فرض ذلك؟
- كلّما تذبذب القلب، شكّل كوكباً غير قابل للسّكَن، فحين تفتقد القصائد، تُصبح الألسنة أكثر أهمية من الأقلام.
للعزلة النّزِقة أكتب كلماتي، باحثاً في وحشة الليل عن براعم تتفتّح عند ولوج الفجر، لعلّ الروح تزفّ قصيدتها الهاربة على عشرين سلسلة، فأحسبها تحرّرت.
في خضمِّ العتمة الداخلية، أُخرج رأسي من النافذة لأرى غيمة شديدة الإخلاص لواقعها.
ثمّة واقع نعيشه، نسير بسببه على أطراف أصابعنا، كي لا تفيق الشمس الكاذبة من غفوتها.. أمّا أنا، وقد جفّت مفاصلي، فأراقبها خلسة، كي لا تلحظ وقوفي بين الصحوة والنوم.. أثبُ على ظلّها، لأعتلي ندى حدسها، وخاصرة الكلام.
هكذا تُحاك فساتين الحياة؛ كلّما وخزتني إبرة فرحها، سال خيط الروح من الجسد.
* "على حافة الريح" آخر إصداراتك الشعرية، تستحضر فيها مسائل الهوية والذاكرة وتجاربك الشخصية بشعرية تقترب من النثر. هل تشعر بوجود نزاع خفي أو معلن بين النثر والشِعر داخل النص؟
- أكتب بيدٍ واحدة، منفيٌّ بقوة الحبّ ورحلات القراءة. أنفخ فوق جمر أسايَ، لأستخرج من شُعلة حروفه حبيباتي الموسميات.
عند الكتابة، أفتقد ذاتي بكل تحوّلاتها، دائماً قبل البدء بأيّ معركة على أرض الورق؛ لذلك أزداد حزناً وضراوة.
كلّما اعتليتُها، تفتّح فيها الكرز ليلاً، وفاح منها صهيل أنثى صامتة. أقصد هنا الورقة البيضاء، تلك التي تشبه براءة طفولتي.
حياتي الآن أشبه بنصّ نثريّ أسمر اللون، أفنى قلبه وروحه في كتابة أعباء الليالي القاتمة.. أمّا القصيدة، فمحاربة شقراء، كانت قد أخبرت قرّاءها، بصوتٍ منخفض، أنها في قيلولة.
والصمت بين "الأسمر" و"الشقراء" أشبه بنحلةٍ بين نهديْ الثنائية؛ يتمتع بشراهةٍ فضولية، يلتهم ما تيسّر له من حكايات العذاب الممزوجة بآيات الفرح المُعتّق.
كلّما نام وحي الكتابة ليلاً، نمتُ نكاية برائحة اليدين.. ولئلا يضيع السبيل سُدًى في أزقّة الحُلم وأفنية الخيال، تحملني الكتابة نحو يابسةٍ مؤجّلة، بعيداً عن مفاهيم البشر، لأقرأ العُشب المُدلَّل في سرديّة الحياة والموت.
كشِباك صيّاد أفرغتْ نفسها في البحر، لتصطاد الترقّب والفرح.
0 تعليق