عاجل

مولدوفا وخسارة روسيا الفادحة في أوروبا - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في الثامن والعشرين من سبتمبر/أيلول، خرج حزب العمل والتضامن (PAS) الحاكم في مولدوفا، ذو التوجه الأوروبي، منتصرا في الانتخابات العامة. لم يقتصر انتصاره على هزيمة التكتل الانتخابي الوطني (PEB) الموالي لروسيا، بل أكد كذلك توجها جيوسياسيا جديدا.

فعبر أوراسيا ما بعد الحقبة السوفياتية، أخذت روسيا تفقد مواقعها في ظل استمرار عدوانها العسكري على أوكرانيا. والمفارقة أن موسكو كانت قد أطلقت غزوها واسع النطاق لجارتها في عام 2022 لتؤكد هيمنتها على ما تسميه "جوارها القريب".

وبعد أكثر من ثلاث سنوات، بات واضحا بما لا يدع مجالا للشك أن هذه الإستراتيجية قد أخفقت.

سواء تعلق الأمر بأنظمة ديمقراطية أو أوتوقراطية تقليدية، فإن الدول وقادتها باتوا يديرون ظهورهم لموسكو.

وفي مولدوفا، أتى فوز حزب PAS مدويا على خلاف التوقعات التي كانت تشير إلى سباق محتدم. إذ بدا أن القوى الموالية لروسيا، المتجمعة تحت مظلة التكتل الوطني (PEB)، تكتسب زخما مع اقتراب موعد الانتخابات.

وكانت الانقسامات المجتمعية والضبابية الاقتصادية تثقل كاهل البلاد. غير أن الأمور بدأت تتبدل مع أواخر الصيف، حيث عادت الخلافات القديمة بين مكونات التكتل الروسي إلى الواجهة.

أما المحاولات الروسية المنسقة للتأثير على الانتخابات من خلال حملات معلوماتية عبر وسائل التواصل الاجتماعي- صورت فيها حزب PAS كدمية في يد الغرب يسعى إلى جر البلاد إلى حرب ضد روسيا، مع التلاعب بمخاوف الناس من الانهيار الاقتصادي والضم المحتمل من قبل رومانيا- فقد أتت بنتائج عكسية.

وقدمت هذه الوقائع مبررا للجنة الانتخابات المركزية لحظر حزبين مواليين لروسيا بشكل صريح، بدعوى تلقي تمويلات غير قانونية. وفي الوقت نفسه، نجحت الحكومة في تأمين تسليم الملياردير الفار فلاديمير بلاهوتنيوك من اليونان، والمتهم بلعب دور محوري في سرقة مليار دولار من المصارف المولدوفية.

إعلان

هذا المشهد بأكمله بعث الحماسة في نفوس الجالية المولدوفية في الغرب، والتي تشكل قاعدة دعم قوية للاتحاد الأوروبي. وبالنتيجة، لم تحقق قوى المعارضة سوى نجاح جزئي في معاقلها الواقعة في منطقة غاغاوز ذات الغالبية الروسية في شمال البلاد، وكذلك في ترانسنيستريا.

ورغم خسارة حزب PAS لما يقارب 3% من الأصوات مقارنة بانتخابات 2021، فإنه بقي في الصدارة بنسبة 50.2%، مقابل 24.4% للتكتل الوطني (PEB).

ولو أن روسيا امتنعت عن التدخل، لربما حظيت القوى الموالية لها بفرصة أفضل لمنافسة حزب PAS. غير أن المعارضة أخطأت حين فوتت الفرصة لجعل الانتخابات تدور حول الاقتصاد والحوكمة الرشيدة، إذ ما إن تحول الصراع إلى مسألة اختيار بين أوروبا وروسيا، حتى باتت الكفة تميل لصالح الحزب الحاكم.

وقد تمكن حزب PAS من تقديم نفسه باعتباره المسؤول عن تقريب مولدوفا من عضوية الاتحاد الأوروبي، لا سيما بعد نجاحه في إطلاق مفاوضات الانضمام في يونيو/حزيران 2024، وهي خطوة لاقت ترحيبا واسعا. فقرابة ثلثي المولدوفيين يؤيدون الانضمام للاتحاد، وهو أمر غير مفاجئ، بالنظر إلى كونه الشريك التجاري الأول للبلاد والمستورد الأكبر لصادراتها.

ومن ثم، فإن التوجه الأوروبي للشعب المولدوفي يبدو راسخا، وحتى لو وصل التكتل الوطني الموالي لروسيا إلى الحكم، فإنه من غير المرجح أن يغير هذا المسار جذريا.

ويمكن تلمس مظاهر هذا الابتعاد عن روسيا في منطقة جنوب القوقاز أيضا. فأرمينيا، التي طالما اعتمدت على موسكو دعما إستراتيجيا واقتصاديا، بدأت تعيد توجيه دفتها نحو الغرب. وقد فشلت موسكو فشلا ذريعا في مساندة حليفتها حين استعادت أذربيجان السيطرة الكاملة على إقليم ناغورني قره باغ المتنازع عليه عام 2022.

وقد أتاح هذا الفشل للرئيس الأرميني نيكول باشينيان هامشا للتواصل المباشر مع كل من أذربيجان وتركيا. ويُعمل حاليا على معاهدة سلام بين باكو ويريفان، يسعى الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإتمامها حتى يسجلها في رصيده السياسي.

وفي فبراير/شباط 2024، علقت أرمينيا مشاركتها في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، التي تقودها روسيا. كما عمقت تعاونها الدفاعي والأمني مع فرنسا.

أما أذربيجان، فقد شهدت توترا مع روسيا مرتين خلال السنوات الأخيرة؛ في 2024 إثر إسقاط طائرة مدنية فوق بحر قزوين، ومؤخرا هذا الصيف بعد اعتقال مواطنين أذريين في مدينة يكاتيرينبورغ الروسية، وهو ما أدى إلى أزمة كبيرة.

وكانت روسيا في السابق تفرض نفوذها في المنطقة من خلال دورها كوسيط بين أرمينيا وأذربيجان. أما الآن، فقد نجحت بطريقة ما في تنفير الطرفين، بينما سارعت تركيا والولايات المتحدة إلى ملء الفراغ.

وفي جنوب القوقاز، تبدو جورجيا الدولة الوحيدة التي تميل نسبيا نحو موسكو، وذلك في المقام الأول لأن الحزب الحاكم "الحلم الجورجي" وزعيمه الفعلي الملياردير بيدزينا إيفانيشفيلي، دخلا في خلافات مع الاتحاد الأوروبي؛ بسبب ميولهما السلطوية.

ومع ذلك، لم تتخل جورجيا عن طموحها الأوروبي؛ وإنما رفضت فقط مطالب الاتحاد بشأن الإصلاح الديمقراطي، وهي مطالب فقدت بريقها على أي حال تحت تأثير إدارة ترامب.

إعلان

وتسعى تبليسي، بدلا من الارتماء في أحضان موسكو، إلى تحقيق توازن دقيق بين أوروبا والولايات المتحدة، والصين بطبيعة الحال.

أما آسيا الوسطى، فقد كانت منذ فترة طويلة تمارس ما يعرف بـ"التعدد في التوجهات". وقد دفعت الحرب في أوكرانيا حكومات تلك المنطقة إلى التيقظ من خطر التغلغل الروسي، وفتحت شهية هذه الدول لتقوية علاقاتها بالصين كقوة موازية.

وبكين بدورها وسعت من حضورها الاقتصادي في المنطقة، فهي المستثمر الأكبر حاليا في آسيا الوسطى. وقد ارتفعت حصتها من إجمالي تجارة الدول الخمس في الإقليم من 17.7% عام 2020 إلى 24.1% في 2024، مع تصدر تركمانستان (55%) وقرغيزستان (35%) القائمة.

كما كثفت الصين نشاطها الدبلوماسي: إذ عُقدت أول قمة بين الصين وآسيا الوسطى في مدينة شيآن في مايو/أيار 2023. وفي القمة الثانية التي انعقدت في أستانا في يونيو/حزيران من هذا العام، تم توقيع معاهدة لـ"الجوار الدائم، والصداقة، والتعاون".

وامتد الاهتمام الصيني إلى المجال الأمني، الذي طالما اعتُبر حكرا على موسكو، ليشمل مكافحة الإرهاب، وأمن الحدود، والجريمة العابرة للحدود. ومن منظور دول الإقليم، فإن هذا الشراكة قد تكون مفيدة في التعامل مع التحديات الداخلية. ولم يعد القول الشائع بأن "روسيا توفر القوة، والصين توفر المال" دقيقا.

ورغم تذمر روسيا، فإنها باتت محاصرة، نظرا لاعتمادها المتزايد على الصين، والذي تعاظم بسبب الحرب في أوكرانيا، والعقوبات الغربية التي تلتها.

وكان حضور بوتين العرض العسكري في بكين في الثالث من سبتمبر/أيلول، احتفالا بالذكرى الثمانين للانتصار في الحرب العالمية الثانية، ورفعه دور الصين في هذا النصر، مؤشرا آخر على مدى اختلال التوازن في هذه العلاقة. وقد حضر الزعماء الخمسة لدول آسيا الوسطى، إلى جانب رئيس بيلاروسيا.

ومع ذلك، فهذا لا يعني أن دول آسيا الوسطى باتت تدور بالكامل في فلك الصين. فقد نبه باحثو السياسة الإقليمية إلى خطأ تصوير المشهد على أنه "اللعبة الكبرى" بنسخة جديدة. فهناك قدر معتبر من الاستقلالية لدى هذه الدول، التي تلعب على الحبال لتحقيق مصالحها الذاتية.

وأوروبا ليست بمنأى عن هذا المشهد. إذ تشكل التجارة مع الاتحاد الأوروبي نحو 23% من إجمالي تجارة آسيا الوسطى. وقد يفسر جزء من هذا الرقم عبر السلع الأوروبية التي يعاد تصديرها إلى روسيا لتجاوز العقوبات، لكنه لا يفسره بالكامل.

كما تنشط الدبلوماسية الأوروبية أكثر فأكثر. فقد قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارة بارزة إلى كازاخستان في عام 2024 لمناقشة التعاون في مجالات عدة، من بينها الطاقة النووية المدنية.

وفي أبريل/نيسان، شاركت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، ورئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا، في أول قمة بين الاتحاد الأوروبي وآسيا الوسطى في سمرقند بأوزبكستان.

لقد خلف قرار روسيا بغزو أوكرانيا تداعيات دائمة: عليها أولا، وعلى الدول التي كانت تخضع لهيمنتها سابقا، وعلى أوروبا والصين كذلك.

وقد نكون بصدد مشاهدة نهاية الهيمنة الروسية على "جوارها القريب". صحيح أن النفوذ الروسي لن يزول كليا في مولدوفا وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى، لكنه في تراجع حاد لا يمكن إنكاره.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

0 تعليق