بيمارستان مراكش من أبرز المؤسسات الصحية في الغرب الإسلامي في القرنين الـ12 والـ13 الميلادي، بني في عهد الخليفة الموحدي أبي يوسف يعقوب المنصور الذي حكم ما بين 1184 و1199.
شيد في ساحة فسيحة بموقع معتدل المناخ في مدينة مراكش، التي كانت عاصمة لدولة الموحدين، وصمم على هيئة فناء تتوسطه بساتين وبرك وقنوات مياه، تحيط به غرف المرضى، وبه أقسام متخصصة في الأمراض الباطنية والجراحة والعيون والأمراض النفسية والعقلية.
جمع بين العلاج الطبي والدعم النفسي والروحي، وأشرف عليه أطباء مهرة، كان كثير منهم من الأندلس (كانت في تلك الفترة ولاية تابعة للموحدين)، كما ضم صيدلية مركزية لإعداد الأدوية من الأعشاب والمعادن.
اعتمد نظاما دقيقا في المداومة، واستقبل المرضى من مختلف الطبقات الاجتماعية، أغنياء وفقراء وعابري سبيل، وكانوا يتلقون العلاج مجانا، إضافة إلى وجبات غذائية مناسبة لوضعهم الصحي.
كان الخليفة الموحدي يعقوب المنصور يزور المستشفى كل يوم جمعة لتفقد حالة المرضى ومواساتهم، وخصص مبالغ من ماله الخاص لتوفير احتياجات مطبخه.
كان بيمارستان مراكش نموذجا متقدما للمؤسسات الطبية في الغرب الإسلامي، وعكس عناية الموحدين بالعلوم والطب والرعاية الاجتماعية، وقد ألهم لاحقا إنشاء بيمارستانات في فاس وسلا وغيرها من المدن.
لم يكن بيمارستان مراكش -الذي كان يسمى دار الفرج- مجرد مستشفى للعلاج، بل كان أيضا مركزا التقت فيه خبرات الطب الأندلسي والمغربي، ومنه انطلقت تأثيرات طبية وصلت إلى أوروبا.

التسمية
عرف هذا المبنى باسمين، الأول "دار الفرج"، وهو على الأرجح الاسم الأقدم، وقد ذكره مؤلف كتاب "الاستبصار في عجائب الأمصار" الذي عاصر فترة بنائه.
أما الاسم الثاني فهو البيمارستان، وأورده لأول مرة عبد الواحد المراكشي مؤلف كتاب "المعجب في تلخيص أخبار المغرب".
وقد أطلق عليه هذا الاسم إسوة بمستشفيات المشرق العربي، وخاصة بيمارستانات العراق التي عاش فيها المراكشي فترة من حياته، وتشير الكلمة إلى المكان الذي تقدم فيه العلاجات.
الموقع
ذكر مؤلف الاستبصار أن الخليفة الموحدي يعقوب أبا يوسف الملقب بالمنصور اختار موقع البناء شرق الجامع المكرم، ورجحت بعض الدراسات أن يكون المقصود هو جامع المنصور باعتباره المسجد الرسمي لعاصمة الموحدين.
إعلان
واستندت هذه الدراسات إلى وصف عبد الواحد المراكشي لمكان بنائه في ساحة واسعة ذات مناخ معتدل، وتشير إلى أن المنطقة الشرقية لمسجد المنصور امتازت بالمساحات الخضراء وكانت فيها بحيرة إلى الجنوب منها قصور أبناء المنصور.
غير أن عالم الآثار الفرنسي غاستون ديفردون رجح أن موقع البيمارستان كان شرق مسجد الكتبية، مستندا إلى حفريات شارل ألين، الذي اكتشف تاج عمود على الطراز الأموي خلف موقع بنك المغرب قرب الكتبية، ما دفعه إلى افتراض أنها من بقايا البيمارستان.

مواصفات البناء
حرص الخليفة المنصور على اختيار مكان فسيح يتميز بمناخ معتدل ولطيف لبناء المستشفى، وجاء تصميمه وفق الطراز الموحدي الأصيل: فناء داخلي كبير تتوسطه حديقة غناء و4 برك إحداها مصنوعة من الرخام الأبيض.
وقد سمحت تلك البرك بتدفق المياه إلى أحواض النباتات العطرية وأشجار الفاكهة والورود والأزهار التي أمر الخليفة بزراعتها فيه.
تألف المبنى من غرف واسعة مخصصة للرجال وأخرى للنساء، جيدة التهوية ذات أسقف منحوتة ومزينة بالنقوش، واحتوى على حمامات ومطابخ وغرف غسيل، وزوده مصمموه بالمياه الجارية الساخنة، كما جهزوه بنظام تدفئة شتوي وتبريد صيفي لتأمين إقامة مريحة للمرضى.
قسم إلى أجنحة متخصصة: جناحان للأمراض الباطنية وآخران لأمراض العيون واثنان لعلاج الكسور والخلع، إضافة الى أجنحة للجراحة والأمراض النفسية والعقلية.
فُرشت الغرف بالصوف والكتان والحرير والجلد، وخصصت للمرضى ملابس للشتاء وأخرى للصيف.
كان يستقبل المرضى من مختلف الطبقات الاجتماعية، فقراء وأغنياء وعابري سبيل، ويتلقون العلاج مجانا، وبعد انتهاء فترة علاج الفقراء منهم، كانوا يتلقون منحة مالية يعيشون بها إلى حين انتهاء فترة نقاهتهم واسترجاع قوتهم لاستئناف وظائفهم وأعمالهم.
وقد واظب الخليفة المنصور على زيارة المستشفى كل يوم جمعة بعد أداء الصلاة، يواسي المرضى ويسأل عن أحوالهم وظروف علاجهم، وظل على تلك الحال إلى وفاته، وخصص من ماله الخاص 30 دينارا كل يوم تذهب لتحضير الأطعمة المناسبة للمرضى.
ووصفه المؤرخ الفرنسي ميليت في كتابه "الموحدون" قائلا إن "هذا المستشفى تخجل منه حتى اليوم مستشفيات العاصمة الفرنسية باريس".
أما المؤرخ عبد الواحد المراكشي الذي قضى فترة طويلة من حياته في المشرق، فوصفه بأنه لا مثيل له في العالم.

خدمات المستشفى
إلى جانب وظيفته الاستشفائية في علاج الأمراض البدنية والأمراض النفسية والعقلية، كانت له وظيفة تعليمية، إذ كان الأطباء المشرفون عليه يعطون دروسا في الطب للطلبة الجدد ويعلمونهم أصول المهنة.
الموارد البشرية
ارتبط البيمارستان بأمهر الأطباء الأندلسيين والمغاربة، منهم متخصصون في أمراض العيون والجراحة والأمراض النفسية والعقلية.
وقد أجريت فيه عمليات جراحية دقيقة وبأساليب علاج متقدمة، واستخدمت الموسيقى لعلاج المصابين بأمراض نفسية وعقلية.
وبحسب رسالة دكتوراه في الطب أنجزها عبد اللطيف هيروال بعنوان "المستشفيات في مراكش من العصر الوسيط إلى الزمن المعاصر"، كان التنظيم والتسلسل الهرمي في بيمارستان مراكش على النحو التالي:
إعلان
مدير البيمارستان: المسؤول الأعلى ويُختار من بين أمهر الأطباء، وقد تولى هذا المنصب أبو إسحاق إبراهيم الداني، الطبيب الخاص للخليفة يعقوب المنصور، وخلفه ابناه لاحقا في هذا المنصب. الطاقم الطبي والتمريضي: عمل وفق تنظيم دقيق يضمن المداومة اليومية ومراقبة الوصفات الطبية. المسؤولون عن صيدلية الأدوية: وكان يطلق عليها "دار الأشربة والمراهم"، وأُعدت فيها العقاقير وحُفظت ليتزود بها المحتاجون إليها، ومن الذين أشرفوا على هذه المؤسسة أبو محمد قاسم الإشبيلي، على عهد يوسف بن عبد المومن، وأبو يحيى بن قاسم على عهدي يعقوب والمستنصر. الموظفون المسؤولون عن الإدارة والتمويل: يسهرون على توفير كل ما يحتاج إليه المستشفى من تجهيزات/ ودفع الإعانات للمحتاجين إلى حين اكتمال شفائهم. الطهاة: كانوا يعدون وجبات الطعام للمرضى، إذ كانت تخصص لكل مريض وجبة تراعي وضعه الصحي وحاجاته الغذائية. عمال الغسيل: كانوا يحرصون على توفير ملابس كافية للمرضى، خاصة وأن هؤلاء كانوا يحصلون على ملابس كافية للنهار والليل، وأخرى للصيف والشتاء. البستانيون: اهتموا بصيانة بساتين المستشفى، إذ كانت تضم تشكيلة واسعة من النباتات العطرية والأزهار وأشجار الفاكهة. عمال النظافة: ومسؤوليتهم صيانة المفروشات من الصوف والكتان والحرير والحفاظ على نظافتها.
الطب في العصر الموحدي
شهد العصر الموحدي نهضة طبية لافتة، كان من أبرز أعلامها ابن رشد الحفيد، قاضي إشبيلية، الذي أقام فترة في بلاط الخليفة، وألف كتاب "الكليات في الطب" وعرض فيه آراءه وملاحظاته الطبية العامة.
وبرز أيضا أبو بكر بن زهر الحفيد، طبيب الخليفة يعقوب المنصور، ومؤلف كتب مهمة مثل "التيسير في المداواة والتدبير" و"الترياق الخمسيني".
كما لمعت أسماء أخرى مثل أبي الحجاج يوسف الفاسي، وأبي جعفر القضاعي البلنسي وغيرهم.
وعملت في ذلك العهد طبيبات متخصصات في التوليد وأمراض النساء، منهن أخت ابن زهر وابنتها، اللواتي أشرفن على علاج نساء القصر.
كما برز صيادلة أمثال ابن الرومية الإشبيلي، إمام علم النبات، وأبي علي الأشبوني وأبي جعفر بن الغزال.
وكان الطب يُدرّس في جامع مراكش على أيدي كبار الأطباء، أمثال ابن زهر وأبي الحجاج يوسف المريبطري، وكانت هذه الحلقات وغيرها تعرف مساجلات طبية رفيعة المستوى.
وكان بعض الأطباء يعقدون مجالس علمية للطب في منازلهم، يحضرها الطلاب والمهتمون بالطب وطرق الاستشفاء.
واهتم الموحدون بتنظيم مهنة الطب وإبعاد المشعوذين والدجالين وغير المؤهلين، فكان الخليفة يعين رئيسا لهم من بين أمهر الأطباء وأكثرهم خبرة وأكرمهم أخلاقا، يطلق عليه اسم "المزوار"، وكانت مهمته منح الإذن بممارسة المهنة ومراقبة ممارسيها واستقبال شكاوى الناس.
هدم البيمارستان
انهارت إمبراطورية الموحدين بعد هزيمتهم في معركة العقاب، واستولى المرينيون على مراكش عام 1269، ولا توجد أدلة تاريخية تؤكد ما إذا كان المستشفى قد استمر في دوره بعد سقوط مؤسسيه، ومن ثم بقي تاريخ هدمه مجهولا.
0 تعليق